التصنيف: إعجاز القرآن[*]
تاريخ النشر: 24 شعبان 1435 (22/6/2014)[*]
آخر تحديث: 14 ربيع الأول 1436إعجاز القران العددي في ترتيب السور القرآنية
اللغة والترتيب وجهان لإعجاز القرآن الكريم لا ينفصل أحدهما عن الآخر، نال الأول منهما " اللغة " كل اهتمام
[*]
وعناية على مر القرون في حين لم ينل الوجه الثاني " الترتيب " ما يستحق من الإهتمام .. وليس أدل على ذلك من
[*]
أن أغلب المسلمين وبغض النظر عن ثقافتهم لا يعرفون شيئا عن ترتيب القرآن .
ولعل من أهم الأسباب التي أدت إلى هذا الموقف من ترتيب القرآن ما رافق المسائل المتعلقة به من تضارب الأقوال
[*]
والآراء إلى حد التناقض , مما جعل التوفيق بينها أمرا غير ممكن , ومما أدى في النهاية – كحل لهذه المعضلة - إلى
[*]
استبعاد الترتيب كوجه إعجازي من وجوه إعجاز القرآن واعتباره – لدى البعض - مسألة ثانوية .. وما زال هذا
[*]
الموقف هو السائد حتى الآن .
السؤال الذي يطرح نفسه هنا : هل حقا أن ترتيب القرآن الكريم مسألة ثانوية ؟ أم أن هذا الترتيب يخفي حكمة
[*]
وأسرارا ؟ ما السر أنه لم يرتب أولا بأول ؟
من المعلوم أن القرآن الكريم قد نزل مفرقا في 23 سنة , وأنه جمع في النهاية على نحو مختلف تماما عن ترتيب
[*]
النزول .هذه الظاهرة أثارت عددا من التساؤلات ومنذ القديم, كان أولها التساؤل عن الحكمة من نزول القرآن مفرقا
[*]
والذي أثاره المشركون بقصد التشكيك بالقرآن ..
فرد عليهم القرآن : في الآية 32 من سورة الفرقان وهي قوله تعالى :
" وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا "
فالحكمة من نزول القرآن مفرقا – كما تحدده الآية - هو التثبيت .
السؤال الثاني : ما الحكمة من ترتيب القرآن على غير ترتيب نزوله , لقد كان ممكنا أن ينزل القرآن مفرقا فيحقق
[*]
التثبيت , وأن يرتب أولا بأول ؟
قلنا أن الآية 32 من سورة الفرقان قد حددت " التثبيت " هدفا من وراء نزول القرآن مفرقا , بعد ذلك تذكر الآية
[*]
شيئا آخر هو الترتيل " ورتلناه ترتيلا " ..لنتدبر الآية جيدا : ( لنثبت به فؤادك + ورتلناه ترتيلا ) فبعد أن تذكر
[*]
الآية التثبيت تضيف شيئا آخر هو الترتيل .. فما معنى الترتيل في هذه الآية ؟
[*]
معناه : الترتيب , وليس تجويد التلاوة وتحسينها حصرا كما هو في المفهوم السائد .. هذا الفهم لمعنى الترتيل يعني
[*]
أن " التثبيت " هو أيضا علة ترتيب القرآن على غير ترتيب نزوله . ويشمل ذلك الحكمة من ترتيب هذه السورة هنا
[*]
وتلك هناك , ومجيء هذه السورة من هذا العدد من الآيات وتلك من هذا العدد , وكون هذه السورة طويلة وتلك
[*]
قصيرة , وتجميع السور القصيرة في نهاية المصحف والطويلة في أوله , إلى غير ذلك ...
[*]
وبما أن هذا الترتيب ( ترتيل الآيات وجمعها في تشكيلات محددة " سور " ) لن يظهر قبل اكتمال نزول القرآن وقد
[*]
يتأخر الكشف عنه إلى زمن ما , فالتثبيت هنا هو تثبيت مستقبلي يعنى بالمستقبل والأجيال والمؤمنين في العصور
[*]
القادمة , وأنه مرتبط بالكشف عن أسرار ترتيب القرآن , وفي حالة حدوث ذلك سيجد فيه المؤمنون تثبيتا جديدا لهم ,
[*]
كما وجد الرسول (ص) والمؤمنون في الزمن الماضي في نزول القرآن مفرقا ما يثبتهم .
[*]
[*]
وبالمنظور نفسه فإن الرد القرآني على الاعتراض على تنجيمه " نزوله مفرقا " يتسع هو الآخر متجاوزا زمن
[*]
الاعتراض الأول ( زمن النزول ) إلى زمن الاعتراض التالي " المستقبلي " , حيث سيكون ترتيل القرآن " ترتيبه "
[*]
هو الرد الذي يناسب هذه المرحلة ويتولى الرد على ما يجد من شبهات المشككين بالقرآن .
ومما يترتب على هذا الفهم : الجزم بأن ترتيب سور وآيات القرآن توقيفي وما كان إلا بالوحي وبأوامر إلهية , وهو
[*]
رأي جماعة من القدماء :
( ... كان جبريل ينزل بالآيات على الرسول (ص) ويرشده إلى موضع كل آية من سورتها , ثم يقرؤها النبي على
[*]
أصحابه ويأمر كتاب الوحي بكتابتها معينا لهم السورة التي تكون فيها الآية وموضع الآية من هذه السورة . وكان
[*]
يعارض به جبريل كل عام مرة , وعارضه في العام الأخير مرتين .. ( الزرقاني : مناهل العرفان 1/364 )...
[*]
وقال أبو بكر بن الأنبا ري : ... وكان جبريل يوقف النبي (ص) على موضع الآية والسورة فاتساق السور كاتساق
[*]
الآيات والحروف, كله عن النبي (ص) فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن . الإتقان 1/136 )..
وسؤالنا هنا : هل كانت تلك التوجيهات التي كان ينقلها جبريل عليه السلام إلى النبي (ص) دون هدف ؟ وإذا كانت
[*]
كذلك فما ضرورتها إذن ؟ لقد كان الهدف منها الانتهاء بترتيب سور القرآن وآياته إلى الشكل الذي نراه عليه
[*]
الآن ,وهو ترتيب إلهي قد حدد مسبقا , أما الحكمة من ذلك : ليكون معجزة القرآن في الزمن القادم , ودليلا ماديا على
[*]
مصدر القرآن وعلى نبوة محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ..وهذا يعني أن الأجيال القادمة هي المستهدفة بترتيب
[*]
القرآن , أما الذين عاصروا نزوله فقد كان لهم في لغته وبيانه ما يدلهم على إعجازه ومصدره .
ولعل التساؤل الذي طرح في وقت متأخر عن جمع القرآن: هل تم ترتيب القرآن بالوحي أم باجتهاد من الصحابة ؟ قد
[*]
أدى إلى استبعاد الترتيب كوجه من وجوه إعجاز القرآن وابتعاد عن البحث في الحكمة من ذلك الترتيب , ذلك أن قول
[*]
البعض أن ترتيب سور القرآن أو بعضها اجتهادي : أي من عمل الصحابة مجردا من التوجيه الإلهي , قد أضفى عليه
[*]
صفة بشرية وبالتالي نفى عنه صفة الإعجاز ..وحوله في نهاية المطاف إلى مسألة خلافية ( موضع اختلاف بين
[*]
العلماء ) ..
ويمكننا أن ندرك عمق هذه المشكلة إذا نظرنا إلى اختلاف الأقوال في أعداد آيات أكثر سور القرآن حسب ما جاء في
[*]
كتاب السيوطي الإتقان ( 1/147 ), فمع وجود هذا الكم من الأقوال في أعداد آيات سور القرآن فقد كان من
[*]
المستحيل أن يتبين أحد حقيقة ترتيب القرآن أو الحكمة منه ..
وورث المتأخرون زمنا كل ما وصل إليه القدماء في هذه المسألة , وحفظوه وكرروه في كل كتبهم دون أن يحاولوا
[*]
تجاوزه , لم يحاول أحد أن يدرس ترتيب القرآن من خلال القرآن نفسه بعيدا عن تضارب الأقوال والآراء .. بل لقد
[*]
تحول هذا الموروث إلى شيء مقدس لا يجوز الخروج عليه , وما عدا ذلك فهو مما لم يعرفه السلف الصالح ..
وقد وجد أعداء القرآن في هذه المسائل " مواضع الإختلاف " منفذا للنيل من القرآن والطعن فيه وإثارة الشبهات حول
[*]
جمعه وترتيبه وعدد سوره وآياته, مستشهدين بما هو موجود في كتبنا فعلا .. مما اضطر المدافعين عن القرآن في
[*]
مواجهة حملات التشكيك والافتراءات إلى التضحية بترتيب القرآن الكريم واعتباره مسألة ثانوية , فالقرآن هو القرآن
[*]
سواء أكان عدد آياته كذا أو كذا , وسواء أكان عدد آيات هذه السورة كذا أو كذا..وسواء أكان ترتيب القرآن توقيفي أم
[*]
اجتهادي فإنه يجب احترامه .. مثل هذا الكلام قد يقنع صاحبه ولكن ليس بالضرورة أن يقنع الآخرين , هذا إن لم يكن
[*]
سببا في زيادة الشبهات والثغرات ..
نفهم هنا أن المسافة بين العلماء والترتيب قد اتسعت مرة أخرى , وفي مواجهة ما يثار حول هذه المسألة , تسلح
[*]
البعض بالقول أن القرآن كتاب هداية وإرشاد وليس كتابا في الرياضيات , وإن الإشتغال بهذه المسائل ابتعاد عن التدبر
[*]
في مقاصد القرآن وأهدافه... إلى غير ذلك من التبريرات ..سببها هو الجهل بترتيب القرآن . ( من قال أن القرآن
[*]
كتاب رياضيات أو كتاب علوم ؟ ما المانع أن يكون ترتيب القرآن رياضيا ؟ أيكون فوضويا إذن كما يزعم البعض ؟ هل
[*]
يتعارض أن يكون ترتيب القرآن رياضيا و معجزا وان يكون كتاب هداية وإرشاد ؟ لماذا نقبل بوجود نظام رياضي في
[*]
الكون ونتردد في قبوله في القرآن ؟ أليس خالق الكون هو منزل القرآن ؟ هل يرتب الله كل صغيرة وكبيره في هذا
[*]
الكون ابتداء من الذرة وانتهاء بالمجرة ويستثني القرآن ؟! والأسئلة التي تملأ القلب حسرة كثيرة جدا ) .
هذه المسألة شغلتني أكثر من خمسة عشر عاما , وقد لاحظت أن المكتبة الإسلامية رغم آلافها الكثيرة ليس فيها كتاب
[*]
واحد يتحدث عن الحكمة من ترتيب القرآن على غير ترتيب نزوله وأسرار هذا الترتيب , فاندفعت في بحث هذه المسألة
[*]
إيمانا أن إعجاز الترتيب المشاهد في الكون لا بد أن يكون نفسه الموجود في القرآن . أما السبيل الوحيد للكشف عن
[*]
أسرار هذا الترتيب فلغة الأرقام , اللغة العالمية المشتركة بين الناس جميعا على اختلاف أجناسهم ومعتقداتهم , وقد
[*]
اكتشفت من أسرار هذه المعجزة ما يكفي لإثبات ما ذهبت إليه.. لقد أصبح في وسعي أن أوضح بالأدلة الكافية ما السر
[*]
في مجيء سورة البقرة مثلا من عدد محدد من الآيات ب 286 آية لا غير هذا العدد , ما السر في فصل سورة القلم
[*]
وهي إحدى السور المفتتحة بالحروف عن أخواتها وترتيبها في النصف الثاني من القرآن ؟ ما السر مثلا في تجميع
[*]
السور القصيرة في نهاية المصحف والطويلة في أوله ؟ ما السر أن يكون عدد آيات القرآن 6236 آية ... ما
[*]
الحكمة من ترتيب القرآن على غير ترتيب نزوله , وغير ذلك الكثير .. ومع ذلك فالكثيرون مازالوا أسرى معتقداتهم
[*]
السابقة غير قادرين على الخروج من الأروقة التي سجنوا أنفسهم فيها , رافضين لفكرة أن يكون ترتيب القرآن معجزا
[*]
لا لسبب اللهم لأن القدماء لم يقولوا بذلك , ولعل السبب الأقوى أن هذه الاكتشافات جاءت عن غير طريقهم ... إن
[*]
موقف الرفض هذا قد يكون مقبولا في حالة واحدة : إذا استطاع أحد أن يثبت وجود خطأ لدي , إن كل ما كشفت عنه
[*]
موجود في القرآن ومن السهل التأكد من مدى صحته ودقته , فإن وجد كذلك , فما الحجة في رفضه إلا أن يكون عنادا
[*]
واستكبارا ؟!
[*]
لقد وجد الذين عاصروا نزول القرآن مفرقا في نزوله ولغته ما يدلهم على مصدره , فآمنوا بالله وصدقوا رسوله ..
[*]
وثبتوا على إيمانهم .. كذلك سيجد الناس في ترتيب القرآن اليوم ما يدلهم على إعجازه ومصدره , وأنه كتاب الله
[*]
الكريم المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .إن الوصول إلى هذه الحقيقة – الدليل والمعجزة - ضروري
[*]
للإيمان بالرسالة لدى غير المؤمنين , وأما المؤمنون فيزيدهم هذا الوجه من إعجاز القرآن إيمانا وتثبيتا .. بعبارة
[*]
أخرى : إذا كانت الفصاحة والبيان في القرآن – وجه الإعجاز الأول - كما يقول العلماء سببا في تصديق الرسول صلى
[*]
الله عليه وسلم , فترتيب القرآن سيؤدي مثل هذا الدور تماما .. إذا قدم إلى الآخرين بصورة صحيحة .
بقلم: عبد الله جلغوم